فصل: (فرع: يقصر المكي)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: المسافر في البحر عند ركود الريح]

وإن سافروا في البحر، فركدت بهم الريح، فأقاموا على هبوبها، فهم كالمقيمين على تنجز حاجة، فلو أقاموا في موضع قدر إقامة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التي قبلها، وقلنا: يجب عليهم التمام، أو قلنا: يلزمهم الإتمام بعد أربعة أيام، في أحد الأقوال على طريقة أبي إسحاق، ثم هبت الريح، فعدوا عن موضعهم، جاز لهم القصر.
فإن ردتهم الريح إلى موضعهم الأول، ثم ركدت بهم الريح فيه كانوا كالمقيمين في هذه الحالة على تنجز حاجة، فلهم أن يقصروا أربعة أيام، قولًا واحدًا، وفيما زاد عليها الطرق؛ لأنهم قد أنشئوا السفر بهبوب الريح، وهذه إقامة غير الأولى، وإن كان الموضع واحدًا.

.[فرع: يقصر المكي]

ذكر الطبري في " العدة": لو أن مكيًّا قصد إلى عرفات، ثم يعود إلى منى، ثم إلى مكة، ثم يخرج إلى بعض الآفاق، ولم يقم في شيء من هذه المواضع أربعة أيام، فليس له أن يقصر في شيء منها، ما لم يفارق مكة بعد رجوعه إليها؛ لأن كل ذلك بلد إقامته، والمسافات متقاربة.
فأما إذا قصد المكي إلى جدة، أو إلى موضع تقصر إليه الصلاة من مكة، ثم يعود إلى مكة، ولا يقيم بها أربعة أيام، بل يخرج منها إلى بعض الآفاق فله أن يقصر هاهنا عند خروجه من مكة إلى جدة، وفي رجوعه من جدة إلى مكة، وهل له أن يقصر بمكة؟ فيه قولان، كالقولين فيمن مر ببلد له فيها أهل ومال.
قلت: وعندي: أنه لا يقصر بمكة قولًا واحدًا؛ لأن الشافعي قال: (لو خرج من وطنه مسافرًا إلى بلد تقصر إليه الصلاة، فأحرم بالصلاة خارج البلد فرعف، فرجع إلى البلد لغسل الدم، أو لحاجة نسيها لم يكن له أن يقصر ببلده)؛ لأنه في دار إقامته، وإن كان برجوعه لم ينو الإقامة، بل هو على نية السفر.
ويدل على ما ذكرته: أن الشافعي قال في "الأم" [1/164] والقديم: (إذا ولى الإمام رجلًا مكة، فسار من موضع تقصر منه الصلاة إليها، وهو يريد الحج، فبلغ مكة انقطع قصره، وإن كان يريد المسير إلى منى وعرفات)؛ لأنه يحصل بذلك في وطنه، ولا يقطع قصره إذا حصل في طرق عمله؛ لأن ذلك ليس بوطن له؛ ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسير في البلد التي فيها أهل طاعته، وكان يقصر الصلاة فيها.

.[فرع: المسافر يؤم غيره]

إذا أمّ المسافر بمسافرين وبمقيمين جاز، ويجوز للإمام، ولمن خلفه من المسافرين أن يقصروا، ويتم المقيمون؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يؤم المسافرين والمقيمين بمكة، وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن خلفه من المسافرين يقصرون الصلاة، ويتم المقيمون خلفه.
ويستحب للإمام إذا سلم أن يقول للمقيمين: أتموا صلاتكم، فإنا قوم سفر؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سلم قال: أتموا يا أهل مكة، فإنا قوم سفر».
فإن أراد أن يستخلف أحد المقيمين؛ ليتم بهم الصلاة، بنى على القولين في الاستخلاف عند الحدث، فإن قلنا هناك: لا يجوز فهاهنا أولى، وإن قلنا هناك: يجوز فهاهنا وجهان، ويأتي بيان ذلك.

.[مسألة:قضاء فائتة الحضر في السفر]

فإن فاتته صلاة في الحضر، فقضاها في الحضر، وجب عليه أن يقضيها تامة، سواء كان بين فواتها وقضائها سفر أو لم يكن؛ لأنه مقيم حال الوجوب، وحال القضاء.
وإن فاتته صلاة في السفر، فقضاها في الحضر ففيه قولان:
الأول: قال في القديم: (يجوز له أن يقضيها مقصورة)، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، والثوري، والحسن البصري، وحماد؛ لأنها صلاة، فكان قضاؤها كأدائها كالصبح، والمغرب، وكما لو فاتته في الحضر، فقضاها في السفر.
والثاني: قال في الجديد: (يلزمه أن يقضيها تامة)، وبه قال الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، والمزني، وهو الأصح؛ لأن القصر تخفيف تعلق بعذر، وقد زال العذر، فزال التخفيف، كالقعود في صلاة المريض.
وإن فاتته صلاة في السفر، فقضاها في السفر ففيه قولان:
أحدهما: لا يجوز له قصرها؛ لأنها صلاة ردت إلى ركعتين، فكان من شرطها الوقت، كصلاة الجمعة.
والثاني: يجوز له قصرها، وهو الأصح؛ لأنه تخفيف تعلق بعذر، والوقت باق، فجاز أن يكون التخفيف باقيًا، كالقعود في صلاة المريض.
فعلى هذا: إن تخلل بين الفوات والقضاء حضر، فهل يجوز له القصر؟ فيه وجهان، حكاهما في "الإبانة" [ق \ 87].

.[فرع: القضاء في السفر]

وإن فاتته صلاة في الحضر، وأراد قضاءها في السفر، وجب عليه أن يقضيها تامة.
وقال الحسن البصري والمزني: يجوز أن يقضيها مقصورة؛ لأن الاعتبار بحال الفعل، ولهذا لو ترك صلاة في حال الصحة، فقضاها في حال المرض، كان له أن يصليها قاعدًا، وكما لو فاته صوم في الحضر، فذكره في السفر فإن له أن يفطر.
ودليلنا: أن هذه صلاة تعين عليه فعلها أربعًا، فلا يجوز له النقصان عن عددها، كما لو لم يسافر، وكم لو نذر أن يصلي أربع ركعات.
وأما ما ذكراه من صلاة المريض: فالفرق بينهما: أن المرض حال ضرورة، والسفر حال عذر، فلا يعتبر أحدهما بالآخر، ألا ترى أنه لو افتتح الصلاة قائمًا في الصحة، ثم طرأ عليه المرض، في أثنائها جاز له القعود، ولو افتتح الصلاة في الحضر، ثم سافر في أثنائها لم يجز له قصرها.
وأما الصوم: فإن كان تركه في الحضر لغير عذر، بأن أكل عامدًا فقد اختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو إسحاق المروزي: لا يجوز له تركه في السفر؛ لأنه مفرط.
فعلى هذا: يسقط السؤال.
وقال أكثر أصحابنا: هو مخير بين قضائه في السفر أو الحضر، وكذلك إذا تركه في الحضر بعذر، فهو مخير أيضًا بين قضائه بالسفر أو الحضر، فيكون الفرق بينه وبين الصلاة: أن الترخص في الصوم بالسفر هاهنا إنما هو بتأخيره، لا بسقوط بعضه، والترخص بالسفر في الصلاة إنما هو بسقوط بعضها، ولهذا لو دخل في الصوم بالسفر؛ كان مخيرًا بين إتمامه أو الفطر منه، ولو دخل في الصلاة في السفر بنية التمام لم يجز له قصرها.

.[فرع: أدرك الصلاة حضرًا وصلاها سفرًا]

إذا دخل عليه وقت الصلاة في الحضر، وتمكن من أدائها، ثم سافر فله أن يقصر، وقال المزني: ليس له أن يقصر.
قال الشيخ أبو إسحاق: ووافقه أبو العباس ابن سريج على هذا، كما لو دخل على المرأة وقت الصلاة في الحضر، وتمكنت من أدائها، ثم حاضت قبل أن تصليها، فإنها لا تسقط عنها.
والمذهب الأول؛ لأن الاعتبار في الصلاة بحال الأداء، لا بحال الوجوب، بدليل أنه لو دخل عليه وقت الظهر يوم الجمعة، وهو عبد، فلم يصل حتى أعتق فإن الجمعة تجب عليه، وهذا مسافر في حال الأداء فجاز له القصر.
قال ابن الصباغ: وأما الحائض: فلا نسلمه، على قول أبي العباس، فإنه قال فيها: إذا دخل عليها وقت الصلاة، وتمكنت من فعلها، ثم طرأ عليها الحيض، أو الإغماء، فإنها تسقط عنها، وقد حكى الشيخ أبو إسحاق هذا عن أبي العباس في الحائض.
فإن ثبتت الحكايتان عن أبي العباس، تناقض قوله.
وإن سلمنا الحائض على المذهب، فالفرق بينها وبين المسافر: أن الحيض يؤثر في إسقاط الصلاة، فلو أثر ذلك بعد التمكن من فعلها، لأدى إلى إسقاط فرض الصلاة بعد وجوبها، والسفر لا يؤثر في إسقاط الفرض، وإنما يؤثر في عدد الركعات، فلا يؤدي إلى إسقاطها.
وإن سافر، ولم يبق من وقت الصلاة إلا قدر أربع ركعات، جاز له القصر.
وقال المزني: لا يجوز له القصر، ووافقه على هذا أبو الطيب بن سلمة، والصحيح هو الأول؛ لما ذكرناه في الأولى.
وإن سافر وقد بقي من الوقت قدر ركعة، فإن قلنا بقول المزني، وابن سلمة في الأولى لزمه التمام.
وإن قلنا بقول عامة أصحابنا في الأولى بنيت هذه على من صلى في الوقت ركعة، ثم خرج الوقت، فإن قلنا بقول أبي علي ابن خيران: إنه يكون مؤديًا للجميع، وهو ظاهر المذهب، جاز له القصر.
وإن قلنا: يكون مؤديًا لما صلى في الوقت، قاضيًا لما صلى بعد خروج الوقت لم يجز له القصر.
وإن لم يصل المسافر، حتى بقي من الوقت قدر ركعة أو أقل، فإن قلنا: يكون مؤديًا للجميع جاز له القصر، قولًا واحدًا.
وإن قلنا: يكون مؤديًا لما صلى في الوقت، قاضيًا لما صلى بعد خروج الوقت، فهل يجوز له القصر؟ فيه قولان، كما لو فاتته في السفر، فقضاها في السفر.

.[فرع: استخلاف المسافر المقيم]

قال في "الإبانة" [ق \ 89] إذا اقتدى مسافر بمسافر، ونويا القصر، فأحدث الإمام، واستخلف مقيمًا لزم المأموم الإتمام، وأما الإمام الأول: فإن توضأ وعاد، فائتم بخلفيته لزمه التمام، وإن صلى منفردًا جاز له القصر.
قال: وفيه وجه بعيد: أنه يلزمه الإتمام؛ لأن نظام صلاة الخليفة بنظام صلاته، ولعل هذا الوجه مأخوذ من أحد التأويلات في مسألة الراعف التي مضت.

.[مسألة:الجمع بين الصلوات]

يجوز الجمع بين الظهر والعصر في وقت إحداهما، وبين المغرب والعشاء في وقت إحداهما، في السفر الطويل، وبه قال سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وابن عمر، وابن عباس، وأبو موسى، ومعاذ بن جبل، وجابر بن سمرة.
وهل يجوز الجمع بينهما في السفر الطويل؟ فيه قولان:
الأول: قال في القديم: (يجوز)، وبه قال مالك.
ووجهه: أن أهل مكة يجمعون بين الظهر والعصر بعرفة، وبين المغرب والعشاء بمزدلفة، ولا ننكر عليهم منكر؛ ولأنه سفر يجوز فيه التنفل على الراحلة، فجاز الجمع فيه كالطويل.
والثاني: قال في الجديد: (لا يجوز)، وهو الأصح؛ لأنه إخراج عبادة عن وقتها، فلم يجز في السفر القصير كالفطر، وأما أهل مكة: فلا حجة في فعلهم أيضًا.
قال ابن الصباغ: لأنهم يقصرون أيضًا، ونحن لا نجيز ذلك في القصر، وأما التنفل على الراحلة: فإنما جاز ذلك؛ لئلا ينقطع عن النافلة، وفي ذلك مشقة، وهذا يستوي فيه القصير والطويل، وليس في منع الجمع في القصر مشقة، هذا مذهبنا.
وقال الحسن البصري، وابن سيرين، ومكحول، والنخعي، وأبو حنيفة، وأصحابه: (لا يجوز الجمع بين الصلاتين في السفر بحال، وإنما يجوز لأجل النسك في عرفة، ومزدلفة لا غير).
ودليلنا: ما روي عن «ابن عباس: أنه قال: ألا أخبركم بصلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السفر: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا زالت الشمس، وهو في منزله جمع بين الظهر والعصر في وقت الزوال، وإذا سافر قبل الزوال أخر الظهر حتى يجمع بينها وبين العصر في وقت العصر».
وروي عن «عبد الله بن دينار: أنه قال: غربت الشمس، ونحن مع عبد الله بن عمر في سفر، فسار حتى أمسى، فقلنا: الصلاة، فسار حتى غاب الشفق، وتصوبت النجوم ثم نزل، فجمع بين المغرب والعشاء في وقت العشاء، وقال:كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا جد به السير صلى صلاتي هذه».
إذا ثبت هذا: فالأفضل إن كان نازلًا في وقت الأولى أن يجمع بينهما في وقت الأولى، وإن كان سائرًا فالأفضل أن يجمع بينهما في وقت الثانية؛ لما ذكرناه من حديث ابن عباس؛ ولأنه أرفق بالمسافر، فكان أولى.
فإن جمع بينهما في وقت الأولى، افتقر إلى ثلاثة شروط:
أحدها: نية الجمع.
وقال المزني: لا يفتقر إلى نية الجمع، بل إذا فرغ من الأولى، وأراد أن يصلي الثانية نوى أنه يترخص بها.
ودليلنا: أنه جمع، فلا بد من نيته، كالجمع في وقت الثانية، فإنه وافقنا على ذلك.
إذا ثبت هذا: فإن نوى الجمع عند الإحرام بالأولى صح ذلك قولًا واحدًا، وإن أخر نية الجمع عن حال الإحرام بالأولى، ونواه قبل تسليمه منها، في أي جزء كان منها فهل يصح؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يصح؛ لأن القصر رخصة، والجمع رخصة، فلما كان القصر لا يصح إلا بنية مع الإحرام، فكذلك الجمع.
والثاني: يصح، وهو الأصح؛ لأن الجمع يحصل بفعل الثانية عقيب الأولى، فإذا نوى الجمع قبل الفراغ من الأولى أجزأه، كما لو نوى عند الإحرام.
وحكى في "الإبانة" [ق \ 90] طريقة ثانية: إن كان الجمع بالمطر، اشترط أن تكون النية عند الإحرام بالأولى، وإن كان في السفر أجزأه أن ينوي قبل التسليم من الأولى، قال: وقد نص الشافعي على هذا، والفرق بينهما: أن وجود السفر شرط في جميع الصلاة، فاكتفي بوجوده عن النية في أولها، والمطر لا يفتقر إلى وجوده في جميع الصلاة، فافتقر إلى النية في أولها؛ لأن المطر يشترط في أولها.
الشرط الثاني: الترتيب بين الصلاتين، وهو أن يقدم الأولى منهما؛ لأن الوقت لها، والثانية تبع لها، فاشترط تقديم المتبوع.
الشرط الثالث: التتابع بينهما، فإن فصل بينهما بفصل يسير جاز؛ لأن ذلك لا يمكن الاحتراز منه، وإن فصل بينهما بفصل طويل، ويعرف حده بالعرف والعادة منع الجمع.
قال الشافعي: (ولا يسبح بينهما)؛ يعني: لا يتنفل بينهما.
وقال أبو سعيد الإصطخري: لا يمنع ذلك؛ لأن ذلك من سنن الصلاة، فلم يمنع صحة الجمع كالإقامة، وهذا ليس بشيء؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بالإقامة للثانية، ولم يتنفل بينهما.
وإن كان عادمًا للماء، وأراد الجمع بينهما بالتيمم ففيه وجهان:
الأول: قال أبو إسحاق: لا يجوز؛ لأنه يحتاج أن يطلب الماء للثانية، ويجدد التيمم للثانية، بعد الفراغ من الأولى، وذلك فصل يطول، فمنع الجمع، كما لو فصل بينهما بنافلة.
والثاني: قال عامة أصحابنا: يجوز، كما يجوز الجمع بينهما بالوضوء، وما ذكرناه من الفصل غير صحيح؛ لأنه من مصلحة الصلاة؛ ولأنه دون الطلب الأول، ويفارق النافلة؛ لأنها ليست من مصلحة الصلاة.
فإن جمع بينهما في وقت الأولى، فلما فرغ منهما تيقن أنه ترك سجدة من إحدى الصلاتين، ولم يعرفها بعينها، لزمه إعادة الظهر؛ لجواز أن يكون قد ترك السجدة منها، ولم يجز له أن يجمع إليها العصر، بل يصلي العصر في وقتها؛ لجواز أن يكون قد ترك السجدة من العصر، وقد يسقط عنه فرض الظهر بفعل الأولى، وقد حصل هناك فصل طويل، بفعل العصر وبإعادة الظهر، فمنع صحة الجمع.
قال أصحابنا: ويجيء فيه قول آخر: أنه يجوز الجمع له، قياسًا على الجمعتين إذا أقيمتا في بلد واحد، ولم تعرف السابقة منهما: أن لهم أن يصلوا الجمعة ثانيًا، في أحد القولين.
وإن نوى الإقامة في أثناء الأولى، أو بعد الفراغ منها وقبل الدخول في الثانية بطل الجمع؛ لأنه زال سبب الرخصة، وهو السفر.
وإن نوى الإقامة في أثناء الثانية، فهل يبطل الجمع؟ فيه وجهان، حكاهما في "الإبانة" [ق \ 90].
وإن نوى الإقامة بعد الفراغ من الثانية، فإن قلنا: إن نية الإقامة في أثناء الثانية لا تمنع الجمع فهاهنا أولى، وإن قلنا هناك: إنها تمنع الجمع بينهما، فهاهنا وجهان، حكاهما في "الإبانة" [ق \ 90].
قلت: وهذا بعيد؛ لأنا قد حكمنا بسقوط الفرض عنه بالفراغ منها، فلا تؤثر هذه النية، كما لو أحدث، وكما لو قصر، ثم نوى الإقامة بعد الفراغ منها.
وإن أراد الجمع بينهما في وقت الثانية افتقر إلى نية الجمع، وهو أن ينوي أنه يصليها مع الثانية في وقتها، وتجزئه النية في أي وقت شاء من وقت الأولى؛ لأنه قد يؤخر الأولى إلى وقت الثانية، على وجه المعصية، وعلى وجه النسيان، فافتقر إلى النية؛ لتمييز التأخير الشرعي عن غيره، ولا يفتقر إلى تقديم إحداهما على الأخرى، ولا إلى المتابعة بينهما؛ لأن الأولى قد فات وقتها، فهي تفعل في وقت الثانية على وجه القضاء، والثانية تؤدى في وقتها، فلا تتعلق إحدى الصلاتين بالأخرى، هذا نقل أصحابنا العراقيين.
وقال الخراسانيون: هل تفتقر إلى الشروط الثلاثة هاهنا؟ فيه وجهان.

.[مسألة:الجمع بالمطر]

يجوز الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في وقت الأولى منهما في الحضر في المطر.
وقال أبو حنيفة، والمزني: (لا يجوز).
وقال مالك: (يجوز الجمع بين المغرب والعشاء في المطر، ولا يجوز بين الظهر والعصر).
دليلنا: ما روى نافع، عن ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بين الظهر والعصر؛ لأجل المطر»، وقد روى الشافعي، عن مالك، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع في المدينة بين المغرب والعشاء، من غير خوف ولا سفر».
قال مالك: (أرى ذلك في المطر).
إذا ثبت هذا: فمن شرط صحة ذلك: تقديم الأولى منهما، ونية الجمع على ما مضى، والموالاة بينهما.
وأما المطر: فيشترط وجوده عند الإحرام في الأولى، وعند السلام منها، وعند الإحرام في الثانية، ولا يؤثر انقطاع المطر في غير هذه الحالات؛ لأن المطر قد وجد حال الجمع.
وقال ابن الصباغ: إذا حدث المطر بعد الإحرام بالأولى، فعندي أنه يجوز له الجمع إذا قلنا: تجوز نية الجمع قبل السلام منها؛ لأن سبب الجمع قد وجد، وهو المطر.
والأول هو المشهور، هذا طريقة أصحابنا العراقيين.
وقال الخراسانيون: إذا انقطع المطر في أثناء العصر فهل يبطل الجمع؟ فيه وجهان.
وإن انقطع بعد الفراغ من العصر، فعلى أحد الوجهين وجهان، كما مضى في نية الإقامة، وإن أراد الجمع بينهما للمطر في وقت الثانية، فهل يجوز؟ فيه قولان:
الأول: قال في القديم: (يجوز)؛ لأن كل سبب جاز لأجله تقديم العصر إلى الظهر، جاز تأخير الظهر إلى العصر لأجله كالسفر.
والثاني: قال في "الأم": (لا يجوز)؛ لأن ذلك يؤدي إلى الجمع من غير وجود العذر؛ ولأن المطر قد ينقطع.
فإذا قلنا: يجوز الجمع بينهما في وقت الثانية، قال أصحابنا: فإنه يجوز الجمع سواء اتصل المطر إلى وقت الثانية أو انقطع؛ لأنه إذا أخر فقد لزمه الجمع بالضرورة، فلا تتغير حاله، هذه طريقة أصحابنا العراقيين.
وقال في "الإبانة" [ق \ 90] يجوز أن يؤخر الأولى إلى الثانية في المطر، وهل يجوز أن يقدم الثانية إلى الأولى؟ فيه وجهان.

.[فرع: الجمع في المطر لمن لا حرج عليه]

وهل يجوز الجمع في المطر للمنفرد، أو لمن يصلي في بيته، أو لمن يصلي في المسجد، وبين المسجد وبين بيته سقف يمنع من وصول المطر إليه؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنا إنما جوزنا له الجمع؛ لئلا تفوته الجماعة، وللمشقة التي تلحقه بالمطر، وهذا غير موجود هاهنا.
والثاني: يجوز؛ لأن العلة في جواز الجمع وجود المطر، والمطر موجود، فوجب أن يجوز له الجمع، كمن يصلي في جماعة في مسجد لا سقف بينه وبين بيته.
ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يجمع في المطر في المسجد، وليس بين حجرة عائشة وبين المسجد شيء.

.[فرع: المطر المجيز للجمع]

والمطر الذي يجوز الجمع لأجله: هو المطر الذي يبل الأرض والثياب، سواء كان كثيرًا أو خفيفًا؛ لأن التأذي به موجود.
فأما الرذاذ الذي لا يبل الأرض والثياب إلا بطول المكث فيه: فلا يجوز الجمع لأجله؛ لأن ذلك لا يتأذى به، وأما البرد: فإنه لا يجوز الجمع لأجله؛ لأنه لا يبل الأرض والثبات.
وأما الثلج: فإن كان رخوًا يبل الأرض والثياب جاز الجمع لأجله؛ لأنه بمنزلة المطر بالتأذي به، وإن كان صلبًا لا يبل الأرض والثياب لم يجز الجمع لأجله كالبرد، وأما الوحل: فلا يجوز الجمع لأجله.
وقال مالك وأحمد: (يجوز).
دليلنا: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع لأجل المطر، ولم ينقل أنه جمع لأجل الوحل؛ ولأن الوحل لا يشارك المطر في التأذي به؛ لأن المطر يبل الثياب، وذلك لا يوجد في الوحل.

.[فرع: الجمع للمرض والخوف]

ولا يجوز الجمع في الحضر للمرض، ولا للخوف.
وقال مالك وأحمد وإسحاق: (يجوز الجمع للمرض والخوف).
وقال ابن سيرين: يجوز الجمع في الحضر أيضًا من غير مرض، ولا خوف، ولا مطر، واختاره ابن المنذر؛ لما روي عن ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بين الظهر والعصر من غير خوف ولا سفر».
قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: ولم تراه فعل ذلك؟ قال: (أراد أن لا يحرج أحدًا من أمته).
وروي عن ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، من غير خوف ولا مطر».
ودليلنا: ما ذكرناه من الأخبار في المواقيت.
وأما الخبر الأول: فقوله: (من غير خوف ولا سفر)، فنقول: أراد به: في المطر، وأما قوله في الخبر الثاني: (من غير خوف ولا مطر)، فيحتمل أن يكون أراد: أن المطر انقطع في الثانية، ويحتمل أن يكون أراد: الجمع الذي يقوله أبو حنيفة وهو: أنه أخر الظهر إلى آخر وقتها، وقدم العصر في أول وقتها.

.[فرع: جمع العصر مع الجمعة]

إذا أراد جمع صلاة العصر إلى صلاة الجمعة في المطر، فلا أعلم فيها نصًّا.
والذي يقتضي القياس: أنه يجوز ويشترط وجود المطر عند الإحرام بصلاة الجمعة، وعند السلام منها، وعند الإحرام بالعصر، ولا يشترط وجود المطر في الخطبتين؛ لأنهما ليستا من الصلاة، وإنما هما شرط في صحة الجمعة، فلم يشترط وجود المطر فيهما كالطهارة والتيمم.
وإن أراد أن يؤخر الجمعة إلى العصر، على القول القديم جاز ذلك، ولا يشترط وجود المطر في وقت العصر، على ما مضى، ويخطب وقت العصر، ويصلي الجمعة؛ لأن كل وقت جاز فعل الظهر فيه، جاز فيه فعل صلاة الجمعة، كآخر وقت الظهر، وهذا القول ضعيف، وما ت فرع عليه. وبالله التوفيق.